فصل: الإيضاح:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.قال المراغي:

{وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ مِنْ سُلالَةٍ مِنْ طِينٍ (12)}.

.تفسير المفردات:

السلالة: ما سلّ من الشيء واستخرج منه، وتارة تكون مقصودة كخلاصات الأشياء كالزّبد من اللبن، وتارة تكون غير مقصودة كقلامة الظفر وكناسة البيت. وقرار: أي مستقر، مكين: أي متمكن، والعلقة: الدم الجامد، والمضغة: قطعة اللحم قدر ما يمضغ، تبارك اللّه: أي تعالى وتقدس.

.المعنى الجملي:

بعد أن ذكر سبحانه أحوال السعداء المفلحين- قفّى على ذلك بذكر مبدئهم ومآل أمرهم وأمر غيرهم من بنى الإنسان، وفى هذا إعظام للمنة، وحث على الاتصاف بحميد الصفات، وتحمل مئونة التكاليف، ثم ذكر أن كل ذلك منته إلى غاية هى يوم القيامة الذي تبعثون وتحاسبون فيه على أعمالكم إن خيرا فخير، وإن شرا فشر.

.الإيضاح:

{وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ مِنْ سُلالَةٍ مِنْ طِينٍ} أي ولقد خلقنا أصل هذا النوع وأول أفراده، وهو آدم عليه السلام من صفوة طين لا كدر فيه.
ويرى جماعة من المفسرين: أن المراد بالإنسان هنا ولد آدم وهم يقولون: إن النطف تتوالد من الدم الحادث من الأغذية وهى إما حيوانية وإما نباتية، والحيوانية تنتهى إلى نباتية، والنبات يتوالد من صفو الأرض والماء، فالإنسان على الحقيقة متوالد من سلالة من طين، ثم تواردت على تلك السلائل أطوار الخلقة إلى أن صارت نطفا {ثُمَّ جَعَلْناهُ نُطْفَةً فِي قَرارٍ مَكِينٍ} أي ثم جعلنا نسله نطفا في أصلاب الآباء، ثم قذفت إلى الأرحام، فصارت في حرز حصين من وقت الحمل إلى حين الولادة.
ونحو الآية قول: {أَلَمْ نَخْلُقْكُمْ مِنْ ماءٍ مَهِينٍ فَجَعَلْناهُ فِي قَرارٍ مَكِينٍ}.
{ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً} أي ثم خولنا النطفة من صفتها الثانية إلى صفة العلقة وهى الدم الجامد.
{فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً} أي ثم جعلنا ذلك الدم الجامد مضغة أي قطعة لحم بمقدار ما يمضغ.
{فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظامًا} أي فصيرناها كذلك، وميزنا بين أجزائها، فما كان منها من العناصر الداخلة في تكوين العظام جعلناه عظاما، وما كان من مواد اللحم جعلناه لحما، والمواد الغذائية شاملة لذلك ومنبثة في الدم، ومن ثم قال: {فَكَسَوْنَا الْعِظامَ لَحْمًا} أي فجعلنا اللحم كسوة لها، من قبل أنه يستر العظام، فأشبه بالكسوة الساترة للجسم.
{ثُمَّ أَنْشَأْناهُ خَلْقًا آخَرَ} مباينا للخلق الأول، إذ نفخنا فيه الروح وجعلناه حيوانا بعد ما كان أشبه بالجماد، ناطقا سميعا بصيرا، وأودعنا فيه من الغرائب ظاهرها وباطنها ما لا يحصى.
وقد قال العلماء: إن جميع أعضاء الإنسان مقسمة تقسيما دقيقا على نسب معينة مقيسة بشبره، فطوله ثمانية أشبار بشبره، وإذا مدّ يديه إلى أعلى كان عشرة أشبار بقياسه، وإذا مد يديه إلى الجانبين كان طولهما كطوله على السواء، ومن ثمّ جعل المصريون أصل المقاييس الشبر، وجعلوا كل ضلع من أضلاع الهرم الأكبر بالجيزة ألف شبر بشبر الإنسان.
{فَتَبارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخالِقِينَ} أي فتنزه ربنا جلت قدرته، وهو أحسن المقدّرين المصورين.
عن أنس قال: قال عمر: وافقت ربى في أربع، قلت يا رسول اللّه لو صلينا خلف المقام فأنزل اللّه {وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقامِ إِبْراهِيمَ مُصَلًّى} وقلت يا رسول اللّه لو اتخذت على نسائك حجابا، فإنه يدخل عليك البرّ والفاجر فأنزل اللّه {إِذا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتاعًا فَسْئَلُوهُنَّ مِنْ وَراءِ حِجابٍ} وقلت لأزواج النبي صلى الله عليه وسلم لتنتهنّ أو ليبدلنه اللّه أزواجا خيرا منكن فنزلت {عَسى رَبُّهُ إِنْ طَلَّقَكُنَّ} الآية ونزلت {وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ مِنْ سُلالَةٍ} إلى قوله: {ثُمَّ أَنْشَأْناهُ خَلْقًا آخَرَ} فقلت {فَتَبارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخالِقِينَ} فقال رسول اللّه صلى الله عليه وسلم: «هكذا أنزلت يا عمر» أخرجه الطيالسي.
{ثُمَّ إِنَّكُمْ بَعْدَ ذلِكَ لَمَيِّتُونَ} أي ثم إنكم بعد النشأة الأولى من العدم تصيرون إلى الموت.
{ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ تُبْعَثُونَ} من قبوركم للحساب ثم المجازاة بالثواب والعقاب.
إذ يوفّى كل عامل جزاء عمله، إن خيرا فخير وإن شرا فشر.
وخلاصة ما تقدم- إنه تعالى بعد أن ذكر أنه كلف عباده بما كلف- بين أن هذه التكاليف شكر من الإنسان لربه الذي أنشأه النشأة الأولى وقلّبه في أطوار مختلفة حتى أوصله إلى طور هو غاية كماله، فأصبح قادرا على تكليفه بتلك التكاليف، ولابد له من طور يستحق فيه الجزاء على ما كلّف به، وهو طور البعث بعد الموت يوم القيامة.
ويقول الدكتور أحمد محمد كمال في مجلة الدكتور، إن كلمة تراب أو طين الواردة في القرآن وردت بمعناها المجازى، فالإنسان بل جميع الكائنات الحية تتركب كيميائيا من عناصر أولية جمعها الخالق سبحانه وتعالى وركبها في شكل مادة كيميائية معقدة هى البروتوبلازم أي المادة الحيوية التي تتركب منها الخلايا والأنسجة الحيوانية والنباتية، وهذه المادة الحيوية تتركب من عناصر الأكسجين والأيدروجين والكربون والأزوت والكبريت والفسفور والكالسيوم والصديوم والكلور والحديد والنحاس واليود إلخ.
فإذا نظرنا إلى التراب وقمنا بتحليل عينات منه وجدنا أنه يحتوى على نفس العناصر لأولية المذكورة.
وليس أدل على أن التعبير مجازى من أن جسم الإنسان أو الحيوان أو النبات عند ما يتحلل بعد الوفاة يتحول إلى رماد أو تراب بنفس العناصر.
ويقول الدكتور سالم محمد في هذه المجلة إن الخلق في قوله: {فَإِنَّا خَلَقْناكُمْ مِنْ تُرابٍ} ويكون إشارة إلى خلق آدم نفسه وقد يكون بمعنى أن النطفة في كل من الذكر والأنثى ليدة عملية التغذية التي يتغذى بها الإنسان أو الجسم، وأصل هذه التغذية ومنشؤها من تراب، والنطفة هى الحيوان المنوي للذكر والبويضة للأنثى، فإذا تم التلقيح بدأت البويضة في الانقسام بدأ تطور العلقة وهى مجموعة من الخلايا الحية تنقسم إليها بويضة بعد تلقيحها. وإنما سميت في هذا الطور علقة للشبه الكبير بينها وبين علق الماء وطور العلقة في حياة الجنين يبلغ أربعة أسابيع، ثم تتطور العلقة إلى مضغة للشبه الكبير بينها وبين قطعة اللحم الممضوغة ويبلغ طور المضغة بضعة أسابيع، ثم يبدأ ظهور خلايا العظام، فاللحم أي العضلات التي تكسو هذه العظام.
وقوله: {ثُمَّ أَنْشَأْناهُ خَلْقًا آخَرَ} أي انه من هذه الخلايا ومن هذه الأطوار المتعددة يخرج اللّه لنا هذه الصورة الإنسانية الجميلة التي تشهد بقدرة الخالق وعظمته.
وقوله: {ثُمَّ جَعَلْناهُ نُطْفَةً فِي قَرارٍ مَكِينٍ} فالقرار المكين هو الرحم، ومن يدرس تشريح الرحم وموضعه المكين الأمين في أسفل بطن المرأة ويرى ذلك الوعاء ذا الجدار المريض السميك ثم ترى هذه الأربطة العريضة والأربطة المستديرة، وهذه الأجزاء من البريتون التي تشده إلى المثانة والمستقيم، وكلها تحفظ توازن الرحم وتشد أزره، وتحميه من الميل أو السقوط، وتطول معه إذا ارتفع عند تقدم الحمل، وتقصر إلى طولها الطبيعي تدريجا بعد الولادة. وكذلك من يدرس تكوبن الحوض عظامه يعرف جليا صدق قوله: {ثُمَّ جَعَلْناهُ نُطْفَةً فِي قَرارٍ مَكِينٍ} وكذلك في الرحم سائل أمينوس داخل جيب المياه يعوم فيه الجنين بحرية ويدفع عن الجنين ما قد تلاقيه الأم من صدمات وهزات عنيفة قد تصل إليه فتؤذيه إن لم يهدىء هذا السائل من قوتها ويضعف من شدتها. ثم هو يحتفظ للجنين بحرارة مناسبة حيث أنه موصل ردىء للحرارة، وكذلك هو يقوم بعملية تحديد عنق الرحم وتوسيعه وقت الولادة القرن كما يقوم بعملية التطهير أمام الجنين بما فيه من خواص مطهرة، فكل ذلك يزيد الرحم مكنة وأمنا.
وهكذا يبدو أن مصير هذا الكتاب العجيب الخالد لا يفنى، وأن معين العلم والإلهام فيه لا يضمحل ولا يغيض، وأن الدنيا ستظل تكشف فيه آفاقا بعد آفاق كلما تقدم العلم فتلقى ما بهذا الكتاب الكريم من إيحاءات وإشراقات {سَنُرِيهِمْ آياتِنا فِي الْآفاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ}. اهـ.

.قال الشنقيطي:

{وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنْ سُلَالَةٍ مِنْ طِينٍ (12)}.
بين جل وعلا في هذه الآية الكريمة، أطوار خلقه الإنسان ونقله له، من حال إلى حال، ليدل خلقه بذلك على كمال قدرته واستحقاقه للعبادة وحده جل وعلا. وقد أوضحنا في أول سورة الحج معنى النطفة، والعلقة، والمضغة، وبينا أقوال أهل العلم في المخلقة، وغير المخلقة. والصحيح من ذلك وأوضحنا أحكام الحمل إذ سقط علقة أو مضغة هل تنقضي به عدة الحامل أو لا؟ وهل تكون الأمة به أم ولد إن كان من سيدها أو لا؟ إلى غير ذلك من أحكام الحمل الساقط، ومتى يرث، ويورث، ومتى يصل عليه، وأقوال أهل العلم في ذلك في الكلام على قوله تعالى: {يا أيها الناس إِن كُنتُمْ فِي رَيْبٍ مِّنَ البعث فَإِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِّن تُرَابٍ} [الحج: 5] الآيات. وسنذكر هنا ما لم نبينه هنالك مع ذكر الآيات التي لها تعلق بهذا المعنى. أما معنى السلالة: فهي فعالة من سللت الشيء من الشيء، إذا استخرجته منه، ومنه قول أمية بن أبي الصلت:
خلق البرية من سلالة منتن ** وإلى السلالة كلها ستعود

والولد سلالة أبيه كأنه انسل من ظهر أبيه.
ومنه قول حسان رضي الله عنه:
فجاءت به عضب الأديم غضنفرًا ** سلالة فرج كان غير حصين

وبناء الاسم على الفعالة، يدل على القلة كقلامة الظفر، ونحاتة الشيء المنحوت، وهي ما يتساقط منه عند النحت، والمراد بخلق الإنسان من سلالة الطين: خلق أبيهم آدم منه، كما قال تعالى: {إِنَّ مَثَلَ عيسى عِندَ الله كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِن تُرَابٍ} [آل عمران: 59].
وقد أوضحنا فيما مضى أطوار ذلك التراب، وأنه لما بل بالماء صار طينًا ولما خمر صار طينًا لازبًا يلصق باليد، وصار حمًا مسنونًا. قال بعضهم: طينًا أسود منتنًا، وقال بعضهم: المسنون: المصور، كما تقدم إيضاحه في سورة الحجر، ثم لما خلقه من طين خلق منه زوجه حواء، كما قال في أول النساء {يا أيها الناس اتقوا رَبَّكُمُ الذي خَلَقَكُمْ مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا} [النساء: 1] وقال في الأعراف {وَجَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا} [الأعراف: 189] وقال في الزمر: {ثُمَّ جَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا} [الزمر: 6] كما تقدم إيضاح ذلك كله، ثم لما خلق الرجل والمرأة، كان وجود جنس الإنسان منهما عن طريق التناسل، فأول أطواره: النطفة، ثم العلقة. إلخ.